تستخدم الرقابة العسكريّة في الكيان سياسة القبضة الحديديّة لمنع نشر تفاصيل الخسائر البشريّة التي مُنيَ بها جيش الاحتلال في عدوانيْ عزّة ولبنان، بهدف عدم إحباط الجمهور الإسرائيليّ وكسر معنوياته، ولذا فإنّ الأرقام الرسميّة التي تُنشر في دولة الاحتلال عن عدد القتلى والجرحى والمعاقين لا تعكس حقيقة ما يجري في المعارك المستمرّة منذ أكتوبر 2023، ولذا فإنّ المخفي أعظم في هذه القضية.
وفي هذا السياق، ونقلاً عن مصادر
عسكريّةٍ وُصِفَت بأنّها واسعة الاطلاع، كشفت صحيفة (يديعوت أحرونوت) العبرية، عن
تفاصيل مثيرةٍ، فيما يتعلّق بـ “الجحيم النفسي” الذي يعيشه جنود الاحتلال داخل
غزة، والذي دفع عددًا منهم للانتحار في القطاع أمام الجنود الآخرين.
وقالت الصحيفة إنّ آلاف الجنود، يخضعون
للعلاج النفسيّ بالفعل، وهذا وضع لم يحدث في كافة حروب إسرائيل، على مدى 14 شهرًا،
بدأت في هجوم مفاجئ في أكتوبر، فضلاً عن تعرض آلاف الضباط والجنود لصدماتٍ نفسيّةٍ
داخل القطاع.
وللتدليل على عمق الأزمة النفسية التي
يعاني منها جيش الاحتلال بغزة، أشارت المصادر إلى أنّ جنديًا في إحدى كتائب المشاة
القتالية يرفض منذ أشهر مغادرة القطاع ويطالب بمواصلة القتال دون توقف بسبب أزمةٍ
عقليّةٍ، وفي كتيبةٍ أخرى، وفي ذروة التوغل البريّ قبل نحو عام، قفز جندي من
مدرعته هاربًا نحو الأراضي الإسرائيليّة، لكن في طريقه أوقفته قوة أخرى ونقلته
للعلاج النفسي.
كما كشفت النقاب عن حالةٍ أخرى، والتي
“تعتبر متطرفة وغير عادية، حيث انتحر ضابط مقاتل في منطقة القتال في غزة، أمام بعض
ضباطه، في حدث مؤلم لا يزال يتردد صداه في الوحدة، ولكن لم يتردد صداه في الجمهور،
حتى لا يثقل كاهل الأسرة الثكلى بصورة أكبر”.
وكشفت الصحيفة، أنّ 6 من الجنود الذين
قاتلوا لفترةٍ طويلةٍ في غزة ولبنان، أقدموا على الانتحار، في الأشهر الأخيرة، لكن
الرقم جزئي والجيش يرفض الإفصاح عن العدد الكامل للمنتحرين أوْ مَنْ حاولوا
الانتحار.
وقال أحد القادة العسكريين عن غزة:
“إنّها ثقب أسود لا نهاية له لأنّ العديد من المقاتلين المتحمسين يخجلون من الخضوع
لعلاجٍ طويلٍ وكبيرٍ، وفي هذه الأثناء تتراكم الندوب الخفية التي يمكن التعبير
عنها في نوبات غضبٍ أوْ قمعٍ صامتٍ خلال فترات الراحة القصيرة بين الغارات
والجولات في غزة”.
وتابعت: “الندوب المروعة في ساحة
المعركة لا تنتهي، الجنود رأوا زملاءهم وضباطهم قتلى وجرحى وتعرضوا لضربات ورأوا
جثثًا، ليس في حربٍ مدتها في المتوسط شهر، لكن 14 شهرًا متواصلة”.
بالإضافة إلى ما ذُكِر أعلاه، أوضحت
أنّ القتال العنيف، يشارك فيه “صبية تتراوح أعمارهم بين 19-20 عامًا، بين القتل
والرصاص والانفجارات وروائح المعارك، وظروف ميدانية سيئة دون مياه جارية ودورات
مياه، وبالكاد رأوا عائلاتهم خلال العام الماضي”.
وتابعت: “وفقًا للعديد من الشهادات
التي وصلت للصحيفة في الأسابيع الأخيرة، في كلّ وحدةٍ قاتلت في غزة أوْ في لبنان
تقريبًا، تمّ تسريح عدد كبير من المقاتلين لأسبابٍ عقليّةٍ، ورغم أنّ هذا من بين
مئات الجنود الذين يخدمون في الفوج، إلّا أنّ هناك العديد من الجنود الذين يريدون
خوض الحرب ويواجهون صعوبات مع القيادة وسلطات الصحة العقلية”.
وقالت: “في إحدى كتائب المشاة
النظامية، نظر الجنود وأولياء أمورهم في جواز رفع دعوى ضد القادة على أساس عدم
مراعاة الأعباء العقليّة المفروضة على الجنود”، فيما أكّد خبراء في الجيش أنّ
التأثير الحقيقي سيصبح واضحًا بعد العودة جزئيًا إلى طبيعتهم وسينتهي القتال النفسيّ
إلى حدٍّ كبيرٍ.
ونقلت عن جنود في رفح قولهم إنّهم
يجلسون لأيّامٍ على مؤخراتهم في المنازل المدمرة، في ظلّ ظروف المخاطرة بحياتهم،
من أجل البحث عن المتفجرات، بدلاً من التصرف بصورةٍ طبيعيّةٍ، وقال أحد الجنود
الذين سرحوا من مهام قتالية، إنّ هذا له كلفة عقلية من الإحباط والغضب المتراكمين.
وبحسب بيانات وزارة الأمن
الإسرائيليّة، فإنّ 12 ألف جندي جريح قبلوا كمعاقين منذ بداية العدوان، واستقبل
ألف جريح جديد، “وهذا أمر يمزق اللحم الحي للقوة البشرية المقاتلة في الجيش، عندما
لا تلوح نهاية في الأفق للقتال، ووفقًا لتقديرات قسم إعادة التأهيل بحلول نهاية
العام المقبل سيكون عدد معاقي الجيش 20 ألفًا”.
وأشار قسم التأهيل بوزارة الأمن إلى
أنّ عدد المصابين بأمراضٍ نفسيّةٍ أكثر من المصابين جسديًا.
ويعاني حوالي ثلث المعاقين المعترف بهم
أيضًا من اضطراب ما بعد الصدمة وهذه ليست سوى البداية، وقالت الصحيفة: “عندما يهتز
الرعد إذا توقفت المدافع، سيتضح مدى الانهيار العقلي للجنود”.
ولفت بالختام إلى أنّ 35 بالمائة ممن
خضعوا للكشف النفسي، يعانون من اضطرابات، ومعظمهم من جنود الاحتلال، أمّا بحسب
تقديرات الجيش، فإنّ 15 بالمائة من المقاتلين النظاميين الذين غادروا غزة وخضعوا
للعلاج العقليّ، لم يتمكّنوا من العودة للقتال بسبب الصعوبات التي يعيشونها.
جديرٌ بالذكر أنّ أحد الطيّارين
الحربيين انتحر في غزّة، بيد أنّ السلطات الإسرائيليّة ترفض الاعتراف به كضحية
حربٍ، مدعيّةً أنّه أقدم على وضع حدٍّ لحياته ولم يكُن في الخدمة الاحتياطيّة، وما
زالت جثته في المستشفى لرفض الجيش إجراء تشييعٍ عسكريٍّ له كما تُطالِب عائلته.