وتتوالى الكارثة في غزة وتتركز مأساتها في عملية السحق التي جرت وما زالت في المنطقة الشمالية وتتكثف في بيت لاهيا ومستشفى كمال عدوان الذي أصبح عنواناً للمأساة بعد أن قصفته وحرقته مراراً كان آخرها صباح الأمس بقصف مستودع الدواء الفقير، بعد أن قامت بعملية تطهير عرقي لمخيم جباليا ليتشتت من تبقى من سكانه جنوباً نحو النصر والشيخ رضوان والشاطئ وشمالاً نحو بيت لاهيا.
وها هي تلاحقهم في بيت لاهيا المعقل الأخير للاجئين وتقوم بحرق بيوتهم بهدف استكمال طردهم، وهكذا تكون قد أتمت المرحلة الأولى من خطة الجنرالات بتنظيف الجزء الشمالي لشمال قطاع غزة الذي يضم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.
وسائل الإعلام كعادتها تبدو كأنها انتقلت بتغطيتها نحو لبنان الحدث الجديد وتنزوي غزة إلى الوراء لنسمع مناشدات أهلها لتلك الوسائل بالعودة، وهو ما فعله رئيس مستشفى كمال عدوان المكلوم الدكتور حسام أبو صفية بالتركيز على المعاناة التي تحدث هناك بعد أن عطلت إسرائيل كل شيء حتى سوق مشروع بيت لاهيا ببعض البسطات الفقيرة تم قصفه ولم يبقَ سوى الرحيل تحت حراب الدبابات.
المشهد الدولي لا يسر والمناخات التي تولدت في الأشهر الماضية أخذت تتلاشى.
فقد سكت العالم فجأة لا تظاهرات في العواصم ولا اعتصامات في الجامعات ولم يعد يسمع أحد صوتاً للمحكمة الجنائية الدولية سوى ملاحقة قضاتها، بعد أن أسقطت الدعوى على المتهمين الفلسطينيين بعد اغتيالهم ولم يبقَ مَن تطلبه سوى نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، ولم تعد هناك جلسات لمجلس الأمن واختفت تماماً منظمة المؤتمر الإسلامي، والجامعة العربية قررت أن تجتمع بسبب قرار الكنيست الإسرائيلي بإلغاء عمل «الأونروا» لا لاستخدام الممكنات العربية لوقف الحرب ولا لفرض حلول سياسية تتعلق بحقوق الفلسطينيين فقط للسماح للضحايا بالتزود بالغذاء قبل قتلهم.
بات الأمر في ورطة كبيرة حيث تتمكن إسرائيل من تنفيذ رؤيتها بالإبادة والتطهير، وهي تقرأ الظروف الدولية التي هدأت عاصفتها. فلم تعد المجزرة حدثاً يثير العالم ولم يعد التطهير العرقي يوجب استنكار أو استنفار أي مؤسسة دولية.
هكذا باتت غزة تُذبح بصخب الصواريخ الإسرائيلية وبهدوء كوني لم يعد مدعاة للسؤال بعد تلك التجربة الطويلة ما يعني ترك إسرائيل تفعل ما تشاء وها هي تفعل.
أمام ذلك ما العمل ؟
ليس هناك سوى مشهد الموت، فقد أخفقت حركة حماس التي قامت بالمغامرة الكبرى في التصدي لها ولم تدرك حتى ما كانت تقوله نفسها إن إسرائيل قاعدة عسكرية متقدمة للقوة الدولية.
فهل كانت تحتمل مواجهة كل القوة الدولية مواجهة عسكرية كلاسيكية بما تملكه هي وكل الفلسطينيين من سلاح منزلي ؟ لم تدرك أن الصراع مع إسرائيل يحتاج لأشكال مختلفة فقد تسببت بانعدام حساباتها بانكسار فلسطيني ليس للفلسطينيين هذا القدر من الترف لاحتماله وتلك معضلة تاريخية.
الأساس في المشروع الفلسطيني هو بقاء الفلسطينيين على أرضهم ومشاغلة إسرائيل بالسلاح لاستمرار إحياء القضية والضغط على إسرائيل بوسائل متعددة لفرض حل.
وبسبب هذه الحرب أصبح الفلسطينيون نازحين وهجرة أخرى ويتم تطهيرهم.
أما المشاكسة بالسلاح وغيره فستشهد خمولاً ربما كما حدث بعد النكبة، وبالتالي فقد مست المغامرة بالمسار والمصير الفلسطيني وتلك قصة ستفتح ملفاتها بعد أن تضع الحرب أوزارها وتجيء لحظة الحساب.
لماذا تصر حركة حماس على إعطاء الانطباع بأنها ما زالت تحكم قطاع غزة ؟ فهذا يعطي لإسرائيل مبرراً دائماً لحربها باعتبارها تعمل على إسقاط حكم حماس، وهو مبرر مقبول دولياً وعربياً حتى لذا سنكون أمام حرب طويلة ويبدو الحديث عن إنهائها مسألة بعيدة، وهناك قرار إسرائيلي مسلح بالغرب وببعض العرب بملاحقة حركة حماس وتحت هذا الشعار فإنها تقوم بتطهير عرقي. فما العمل ؟
ماذا لو قامت حماس بإعلان إنهاء سيطرتها على غزة واستدعاء السلطة المسؤولة قانونياً أمام العالم عن غزة لإدارة القطاع ؟ أليس في هذا ما ينزع واحداً من مبررات إسرائيل ؟
أقول هذا في ظل عدم قدرة الحركة على فرض واقع ميداني يجبر إسرائيل على وقف المذبحة التي تصر على إخراج الحركة الفلسطينية من المشهد.
فكم سيكلف هذا من دم وخراب ؟ على الحركة أن تسأل نفسها في ظل مطالبة الناس لها بإيحاد حل بعد أن فشل العالم أو تواطأ بالصمت على دمها.
لم يعد الأمر يحتمل خداع الذات. فالموازين القائمة ليست في صالح الفلسطيني كونياً وفلسطينياً هذا كان يجب أن نقرأه منذ بداية الحرب، وإذا كان الإسرائيلي يصر على استكمال حربه باسم ملاحقة حماس لكنه في سياق ذلك ينفذ مشروع تفريغ القطاع فهل يمكن قطع الطريق قبل أن يستكمل مخططاته ؟ نعم ممكن فلسطينياً، الحل مؤلم لحركة حماس ولكنه يمكن أن يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه فلم يعد الأمر أمام كمية الدم يحتمل المجاملة ولا الشعارات التي لم تحمِ طفلاً فكل الكلام سواء التضخيم بالمعارك أو التقليل من أهميتها لا يؤثر في الواقع ومسار الحرب لكن في سياقه لا بد للعقل أن يقول كلمته ... الفلسطينيون جميعاً في ورطة تشبه النكبة فهل هناك متسع للعقل ؟
الكاتب المحلل السياسي ابن غزة :