إضاءة لديوان أطلس امرأة برّية للشاعرة فرات إسبر


هند زيتوني| سوريا

صدر ديوان "أطلس امرأة بريّة" للشاعرة فرات إسبر عن دار التكوين والترجمة في دمشق ضمن سلسلة إشراقات التي يختارها ويشرف عليها الشاعر الكبير أدونيس.

ومن يطلع على ديوان الشاعرة فرات يلحظ أنها تسعى إلى إيجاد بصمة شعرية خاصة بها، ويتجلّى ذلك في نصوصها الواردة في الديوان؛ فهي تحاول تجاوز المألوف والمكررّ لتصنع عالمها الخاص، وهو أفق يتشكّل من ذاتٍ شعرية قادرة على تجاوز كل ما يقيدها أو ما يحدّ انطلاقها.

والبصمة في الإبداع الشعري لا يكفي فيها أن تتشكل من صياغة أفكار أو قضايا تتصل بالواقع فقط أو أنها صياغة شعرية تتكىء على حصيلة قراءات شعرية وفيرة تشكل الأفق الشعري، بل تتشكل هذه البصمة من بعد آخر يجمع بين الأمرين ويمزجهما ويتجاوزهما، وهو بعد ذات الشاعر.

وقد ذكر أدونيس بأن الكتابة الشعرية الآن كأنها تجيء من أفقٍ آخر؛ أفق الذاتية المتحررة من جميع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتحة على الأعماق والأبعاد المجهولة وعلى الأسئلة المهمّشة أو المطموسة اجتماعياً وثقافياً وسياساً.

وفي ديوان الشاعرة فرات "أطلس امرأة برّية" نرى أنها تتخطى أسلوب الكتابة الشعرية السائدة، وأنها تسعى إلى البحث عن جغرافيا وأبعاد جديدة لتؤسس لعالم شعري حرّ بأسلوب متميز وخلاق، وقد تجلت أول موشرات ذلك بالديوان في عنوانه "أطلس امرأة برّية" في عالم له كينونته الذاتية، وهي لا تقيدها قيوداً تحدّ من انطلاقتها فهي امرأة برّية، وقد شعرنا من خلال نصوصها أنها تُحلّق بنا في عالم قصائدها الحالمة وتسبح بنا على وجه الماء.

تقول الشاعرة: قصائدي مبتلة بالماء/ وأنهار حياتي تفيض بالنذور.

فهي تعرف تماماً بأن هذا العالم يغرق بالعطش في كل ما هو جميل، العالم الدموي الذي يغرق بالحروب والموت كل يوم، تقولُ في قصيدة "الفضيلة تعرف معنى العطش":

ما لهذه الأرض/ تزدادُ وحشةً/ وما بها من أنيس؟

غيرَ أنهار تتغيّر أحوالها في مواسم الله/ كيف لنا أن نطمئن/ في هذه الأرض التي سيّجت بالتعاويذ؟/ الفضيلة تعرفُ معنى العطش.

وتقول في قصيدة أخرى: أكتبُ الشعر ليطمئن قلبي

حيث ترى العالم من حولها موحشاً، وكأنه خلا من الإنسان الحقيقي، إنه عالمٌ يتغيّر فيه كل شيء إلى الأسوأ، بل ما كان مصدراً للحياة أصبح مصدراً للموت، إنه عالم متعطّش للفضيلة التي غابت عنه.

فهل الشعر هو الوسيلة الناجعة للهروب من ورطة الوجود؟ وهل باستطاعته أن يمنحنا الخلاص والسكينة والراحة والهدوء؟

يعتمد الديوان على إيقاع داخلي مستنداً إلى النغمة الشعورية والانفعال الذاتي، ما يمنحه صدقاً عميقاً وسحراً خاصاً يشعر به المتلقي، وكذلك الأسلوب سلس وممتع حيث تحمل الصور الشعرية دلالات ثرّية وتستند إلى رؤى فلسفية وصوفية عميقة من خلال الاستعارات والانزياحات المبتكرة. والصور الشعرية غموضها شفيف، فلا هي مستغلقة على القارئ؛ فتحول بينه وبين الاستمتاع بالنص الشعري، ولا هي بسيطة ساذجة في متناوله لأول وهلة.

أما العناوين فليست مجرد إشارات، بل أبواب سرية إلى عالم مكتظ بالأسرار والاحتجاج الصامت.

كما يتكئ الديوان على شبكة دقيقة من التناصات التي تهدف إلى إثراء النص من خلالها، وما تفيض به من دلالات:

- تناص صوفيٍ حيث تستحضر الشاعرة مفردات وثيقة الصلة بالصوفية كالفيض، العروج، الغياب، الحضور لكن الشاعرة تعيد توظيفها برؤية أنثوية، حيث يصبح العروج عروجاً جسدياً ومعنوياً في آن، والغياب فعل حضور متجاوز.

- وتناص جغرافي– أسطوري حيث تستعار مفردات الأطلس، الخرائط، الجهات، والبحار لتبني به بنية رمزية مغايرة حيث لا تسير المرأة على الخريطة، بل تسير الخريطة بها.

تنساب اللغة في القصائد كما لو كانت البحر ذاته، فكلما غُصت فيه اكتشفت مزيداً من ثرائه وثرواته ودرره.

تكتب الشاعرة بلغة مشبعة بالرموز، إذ تصبح المرأة أكثر من كائن بشري؛ إنها الأرض، والبحر، والعاصفة، وفي أحيانٍ كثيرة الجرح المفتوح الذي يتكلم، وبواسطة هذه الصور، تُحيل القصائد المتلقي إلى عالم متمرد على القوالب، متحرر من الترويض، تماماً كما تشتهي "المرأة البرية" أن تكون.

تقول في قصيدة العابر في ثياب الله: مهووسة بالنذور/ أغنّي/ أرقص/ أدور/ مثل الدراويش في حانة الله.

كما تظهر روحها المتمردة على كل الرتابة والتاريخ الذي يكرّر نفسه، كيف لا وهي حارسة هذا الكون المتردّي في قيعان البؤس والحزن، فالصوت الأنثوي هنا لا يخفى على أحد لما فيه من أسئلة عميقة تحمل طابعاً فلسفياً توجهها لنفسها ثم للآخر.

تقول: مُذْ هبطنا وأنا أحرسُ الأرض، أحرسُ وجع النساء.

تقول: أسمع صوت الماء بصمت العارف/ أدركُ أنّ امرأةٌ مرّت من هنا.

أفتحُ قفص صدري وأطيّر عصافيره/ يا أيها الإنسان لا تكن سجاناً.

فنلاحظ أن الشاعرة تتعمّق في قضايا الذات البشرية وتتوق إلى الحرية والجموح والانعتاق من أعباء الماضي وحمولته التي أثقلت كاهل الأنثى خاصةً.

- للحُبّ مكان في شعر فرات لكنّ الحُب ما زال من المحرمات في حضارة الشرق، والأنثى الشرقية كانت في أغلب الوقت الماضي تتزوج لتنجب وتصبح ربة بيت فقط، لم تكن تعرف الحب ولم تستطع أن تتفوه به، ولم تكن تجرؤ أن تكتب الشعر أيضاً.

وأكثر الشاعرات الآن كسرن حاجز الخوف، وكتبن عن الحُبّ والجسد والرغبة، فالحب له القدرة السحرية على الخلاص من كل الأوجاع التي تحيط بالأنثى والحياة.

وقد تحدثت الشاعرة عن الحب والجسد بلغة رمزية متجددة، فهي تصرّح بأنها بحاجته تقول الشاعرة: يا موسى ألقِ بعصاك/ وهب لي رجلاً يتسًع لحبيّ/

فكيف تخاف الشاعرة وهي التي تمشي وتقطع طرقات الغيب وكلها شغف لصيد المجرات.

وقد خاطبت الحُبّ وقالت: لك زمنك أيها الحب ولي زمني/ أصابعك من معدن وعواطفك أسلاك وأنا نسيمٌ عليل/ ويدٌ تلمس خدّ الهواء.

فالحب هو دوماً سلاح الشعراء للنجاة من تباريح الحياة ومشقاتها.

تقول الشاعرة: أقاومُ الظلمة بالحب/ وأسقطُ في حضن الوردة مبتلّة بالضوء.

كما نقتطف من قصيدة واحة العطش

جسدٌ تتفطّر رغباته/ مثل الورد في آخر أيامه/ قالوا أنّهُ مات من فخٍ نصبته له الدنيا

- وهنا نلاحظ دور المرأة كجغرافيا متحركة:

في هذا المستوى، لا تظهر المرأة ككائن ثابت أو موضوع تأمل، بل كقوة مكوّنة للفضاء، تتحرك عبر الخرائط لا بوصفها راحلة، بل بوصفها خالقة للاتجاهات، هي الأطلس ذاته، لا من تسير عليه.

تتحول المرأة إلى معادل رمزي للأرض– لا بوصفها أرضاً مأهولة فقط، بل كأرض برية، عصية على الترويض، ليست حركتها سفراً تقليدياً، بل هدمٌ وإعادة بناء للمكان، بمعنى أن وجودها يعيد تعريف الحدود.

وأخيراً نرى أن ديوان أطلس امرأة برّية هو مشروع شعري يعيد طرح الأسئلة حول الجسد، واللغة، والمكان، من منظور أنثوي متجاوز للثابت والمصنوع.
تعليقات